فصل: (فرع: موقف الإمام في الجنازة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: وصى أن يصلي عليه رجل]

إذا أوصى الميت أن يصلي عليه رجل... لم يقدم على الأولياء.
وقال أنس بن مالك، وزيد بن أرقم: (الوصي أولى)، وهو قول أحمد، وإسحاق.
وقال مالك: (إن كان الوصي ممن يرجى دعاؤه... قدم على الولي).
دليلنا: أنها ولاية ترتبت فيها العصبات، فلم يقدم الوصي على العصبات، كولاية النكاح.
فإن غاب الولي الأقرب، واستناب من يصلي... فالذي استنابه أولى من القريب البعيد الحاضر.
وقال أبو حنيفة: (القريب الحاضر أولى).
دليلنا: أن الغائب على ولايته، فكان من استنابه أولى من الولي البعيد الحاضر، كما لو كان الولي القريب حاضرًا، واستناب غيره.

.[فرع: يقدم المملوك والصبي على النساء]

وإن كان ميت في فلاة، ومعه نساء ومملوك وصبي يعقل... فالمملوك والصبي أولى منهن، والمملوك أولى من الصبي؛ لأن المملوك مكلف، فإن لم يكن إلا النساء صلين عليه فرادى، فإن صلين عليه جماعة... قامت إمامتهن في وسطهن.
وقال أبو حنيفة: (يصلين عليه جماعة).
دليلنا: أن النساء لم يسن لهن الصلاة على الجنازة... فلم يشرع لهن الجماعة.
هكذا ذكر ابن الصباغ، وهذا يدل عليه من قوله: إن الفرض لا يسقط بصلاتهن. وقد مضى ذكر ذلك.

.[مسألة: شروط صلاة الجنازة]

ومن شروط صحة صلاة الجنازة: الطهارة بالماء عند وجوده، أو التيمم عند عدمه، أو الخوف من استعماله، وهو قول كافة أهل العلم.
وقال الشعبي، وابن جرير: الطهارة ليست من شرط صحة صلاة الجنازة، وبه قال الشيعة؛ لأن المقصود منها الدعاء.
وقال أبو حنيفة: (إن خاف فوتها بالاشتغال بالطهارة بالماء... تيمم لها مع وجود الماء). وقد مضى الخلاف فيها لأبي حنيفة في التيمم.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} الآية. [المائدة:6].
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة إلا بطهور». ولم يفرق بين صلاة الجنازة وغيرها.
ولأن صلاة الجنازة تفتقر إلى ستر العورة، والطهارة من النجاسة، واستقبال القبلة، فافتقرت إلى الطهارة عن الحدث، كسائر الصلوات.

.[مسألة: صلاة الجنازة في المسجد]

لا تكره الصلاة على الجنازة في المسجد.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (تكره).
دليلنا: ما روي: «أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أمرت بجنازة سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أن تدخل المسجد، ليصلى عليها، فأنكر عليها ذلك، فقالت:ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهيل ابن بيضاء وأخيه إلا في المسجد» ولا تكره الصلاة على الميت في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
وقال الأوزاعي: (تكره).
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تجوز في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها؛ لأجل الوقت، وتجوز في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها؛ لأجل الفعل). وقد مضى ذكر ذلك.

.[فرع: موقف الإمام في الجنازة]

وفي مسنون موقف الإمام من الرجل وجهان:
أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن يقف عند رأسه.
والثاني - وهو قول أبي علي الطبري -: أنه عند صدره.
وأما المرأة: فلا يختلف أصحابنا فيها، بل يقف الإمام عند عجيزتها، وكذلك الخنثى يقف عند عجيزته، كالمرأة.
وقال أبو حنيفة: (يقف عند صدر الرجل والمرأة).
وقال مالك رحمة الله عليه: (يقف من الرجل عند وسطه، ومن المرأة عند منكبيها).
دليلنا: ما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها».
«وروى أبو غالب: قال: كنت في سكة المدينة، يعني: البصرة، فمرت جنازة معها ناس كثير، فقيل: هذه جنازة عبد الله بن عمير، فتبعتها، فإذا برجل عليه كساء رقيق، وعلى رأسه خرقة تقيه من الشمس، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما وضعت الجنازة... قام أنس، فصلى عليها، وأنا خلفه، لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه، فكبر أربعًا، ثم ذهب، فقعد، فقالوا: يا أبا حمزة، المرأة الأنصارية، فأتي بها، وعليها نعش أخضر، فقام عند عجيزتها، وصلى عليها صلاته على الرجل، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر أربعًا، ويقوم عند رأس الرجل، وعند عجيزة المرأة؟ قال: نعم، فلما فرغ قال: احفظوا». وذكر الترمذي: أن المرأة كانت من قريش.

.[مسألة: اجتماع جنائز]

وإن اجتمع جنائز... فالأولى أن يفرد كل جنازة بصلاة، فإن أراد الإمام أن يصلي على جميعها صلاة واحدة جاز؛ لأن القصد من ذلك الدعاء، وذلك يحصل بصلاة واحدة.
فإن كانت الجنائز جنسًا: إما رجالاً، أو نساء... ففي كيفية وضعها وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\107]:
أحدهما: يوضع رأس كل واحد عند رجل الآخر.
والثاني: يوضع كل واحد بجنب الآخر، كالصف، ويقدم إلى الإمام أفضلهم، وهذه طريقة أصحابنا البغداديين، وهو الصحيح.
وإن اجتمع جنازة رجل، وصبي، وخنثى، وامرأة: فإن الرجل يكون مما يلي الإمام، ثم الصبي بعده، ثم الخنثى، ثم المرأة مما يلي القبلة.
وقال القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب: يكون الرجل مما يلي القبلة، والمرأة مما يلي الإمام؛ لأن أشرف المواضع ما يلي القبلة، فخص الرجل بها، كما إذا دفنا معًا في اللحد.
دليلنا: ما روي عن عمار بن أبي عمار: أنه قال:لما ماتت أم كثلوم بنت علي بن أبي طالب، وابنها زيد بن عمر بن الخطاب، فصلى عليهما سعيد بن زيد، فجعل زيدًا مما يليه، وأمه مما يلي القبلة، وفي القوم الحسن، والحسين، وابن عباس، وأبو هريرة، حتى عد ثمانين من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: هكذا السنة.
وروي: (أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما صلى على تسع جنائز، رجالاً ونساء، فجعل الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة).
ولأن الرجال يلون الإمام في جميع الصلوات، فكذلك هاهنا، ويخالف اللحد؛ لأنه ليس ثم إمام، فاعتبرت القبلة، وهاهنا إمام، فاعتبر القرب منه.

.[فرع: اختلاف أولياء الموتى]

وإن اختلف أولياؤهم فيمن يوضع للصلاة أولاً؟ فإن كان الأموات رجالاً أو نساء... قدم السابق؛ لأن له مزية السبق.
وإن كان رجلاً وامرأة... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قدم الرجل، سواء كانت المرأة سابقة أو مسبوقة؛ لأن سنة موقف المرأة أن تكون خلف الرجل).
وإن كان رجلا وصبيًا: فإن كان الرجل هو السابق... قدم إلى الإمام، وإن كانت جنازة الصبي سابقة، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لم أؤخره؛ لأن له حق السبق، وقد يقف مع الرجل في الموقف، بخلاف المرأة مع الرجل).

.[مسألة: صلاة الجنازة قائمًا]

إذا أراد الصلاة على الميت... قام، فإن صلى عليه قاعدًا مع القدرة على القيام لم تصح.
وقال أبو حنيفة: (يصح).
دليلنا: أنها صلاة مفروضة، فوجب فيها القيام مع القدرة عليه، كسائر الصلوات المفروضة.
ويجب أن ينوي الصلاة المفروضة، ويجب أن ينوي الصلاة على الميت؛ لأنها صلاة، فوجبت لها النية، كسائر الصلوات، ولا يفتقر أن ينوي أن الميت رجل أو امرأة.
فإن نوى أن يصلي على هذا الرجل الميت، فبان الميت امرأة، أو نوى أن يصلي على المرأة، فبان رجلاً... قال المسعودي [في "الإبانة" ق\108] لم يجزه.
ولا يجوز أن ينوي بها سنة؛ لأنها لا يتنفل بمثلها؛ ولأنها تتعين بالدخول فيها.
وهل يلزمه أن ينوي أنها فريضة؟ قال الصيدلاني: فيه وجهان، كما قلنا في سائر الصلوات المفروضة.

.[فرع: التكبير على الجنازة أربعًا]

ويكبر أربعًا، وبه قال عمر، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعقبة بن عامر، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وداود رحمة الله عليهم.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (يكبر ثلاث تكبيرات). وبه قال ابن سيرين، وجابر بن زيد رحمة الله عليهما.
و (كان علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه يكبر على من كان بدريًا ست تكبيرات، وعلى غيره من الصحابة خمس تكبيرات، وعلى غير الصحابة أربع تكبيرات).
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنائز، تسعًا، وسبعًا، وخمسًا، وأربعًا، فكبروا ما كبر الإمام».
وقال زيد بن أرقم، وحذيفة بن اليمان: (يكبر خمسًا)، وإليه ذهبت الشيعة.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي لأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر أربعًا».
وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن آخر ما كان كبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنازة أربعًا» وكذلك حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي مضى ذكره.
وروى أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الملائكة صلت على آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكبرت عليه أربعًا، وقالت: هذه سنتكم يا بني آدم».
فإن كبر خمسًا عامدًا... فقد ذكر في "الإبانة" [ق\108] وجهين:
أحدهما: تبطل صلاته، كما قلنا: لو زاد في الصلاة ركعة عامدًا.
والثاني: لا تبطل؛ لأنه زاد ذكرًا، وهذا هو الصحيح.
ويستحب أن يرفع يديه حذو منكبيه في كل تكبيرة.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يرفع يديه، إلا في الأولى).
دليلنا: ما روي عن ابن عمر، وأنس: (أنهما كانا يفعلان ذلك في التكبيرات كلها).
ولأنها تكبيرة في صلاة الجنازة... فسن فيها رفع اليدين كالأولى.

.[مسألة: قراءة الفاتحة]

ثم يقرأ بعد التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب، وهي واجبة، وبه قال أحمد رحمة الله عليه، وإسحاق، وداود.
وروي ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال مالك، وأبو حنيفة، والثوري: (لا يقرأ فيها شيئًا من القرآن).
وقال مالك: (أكره القراءة، وإنما يأتي بعد الأولى بالتحميد).
دليلنا: ما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر على الميت أربعًا، وقرأ بعد التكبيرة الأولى بأم القرآن».
ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجب فيها القراءة، كسائر الصلوات.
وهل يسن دعاء التوجه والتعوذ قبلها والسورة بعدها؟ فيه وجهان:
الأول: قال عامة أصحابنا: لا يسن شيء من ذلك؛ لأنها مبنية على الحذف والإيجاز.
والثاني: من أصحابنا من قال: يسن ذلك كله، كما يسن في غيرها من الصلوات.
وهل يسن الجهر بالقراءة فيها؟ فيه وجهان:
أحدهما قال عامة أصحابنا: لا يسن ذلك، سواء صلاها ليلاً أو نهارًا؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه جهر بالقراءة فيها، وقال: (إني لم أجهر فيها؛ لأن الجهر مسنون فيها، ولكن أحببت أن تعلموا أن لها قراءة واجبة).
والثاني: قال الداركي: يجهر فيها، إن صلى بالليل، كالمغرب والعشاء. وليس بشيء.

.[مسألة: ما يقال عقب التكبيرة الثانية]

فإذا كبر الثانية... صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه» قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع.
قال الشافعي: (ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ولا يجب، وإنما يستحب)؛ لأن في سائر الصلوات يدعو للمؤمنين والمؤمنات بعد الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ونقل المزني: (أنه إذا كبر الثانية... حمد الله، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
قال أصحابنا: وهذا لا يعرف للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولأن هذا ليس بموضع حمد.

.[مسألة: الدعاء للميت بعد الثالثة]

ثم يكبر الثالثة، ويدعو للميت، وذلك واجب؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صليتم على موتاكم... فأخلصوا لهم بالدعاء».
ولأن القصد من الصلاة عليه الدعاء له، فلا ينبغي الإخلال به.
وأما صفة الدعاء: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدعية مختلفة، إلا أن أكثر ما نقل عنه: أنه كان يقول: «اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا... فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام.
وزاد ابن الصباغ في أوله، وهو: اللهم اغفر لأولنا وآخرنا، وفي آخره: فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده» قال: وعليه أكثر أهل خراسان.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا وقف فيه، فأي دعاء دعا فيه... أجزأه). واختار - رَحِمَهُ اللَّهُ - دعاء ذكره في "الأم" [1/240] (اللهم هذا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم، إن كان محسنًا فزد في إحسانه، وارفع درجته، وقه عذاب القبر، وهول يوم القيامة، وابعثه من الآمنين، وإن كان مسيئًا... فتجاوز عن سيئاته، وبلغه بمغفرتك وطولك درجات المحسنين، اللهم إنه قد فارق ما كان يحب من سعة الدنيا وأهلها وغيره، وصار إلى ظلمة القبر وضيقه، وجئناك شفعاء له، نرجو له مغفرتك، اللهم إنه فقير إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه).
ونقل المزني عنه [في " المختصر " (1/183)] دعاء أطول منه، وهو: (اللهم هذا عبدك، وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها، ومحبوبه وأحباؤه فيها، إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم نزل بك، وأنت خير منزول به، وأصبح فقيرًا إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسنًا... فزد في إحسانه، وإن كان مسيئًا فتجاوز عنه، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك، يا أرحم الراحمين).
ومعنى قولنا: (كان يشهد أن لا إله إلا أنت)، أي: إنما دعوناك له؛ لأنه كان يشهد.
وإن كان الميت صغيرًا... قال في موضع الدعاء له: اللهم اجعله فرطًا وذخرًا وأجرًا، ويدعو لأبويه، فيقول: اللهم اجعله لهما سلفًا وذخرًا، وفرطًا وغبطة واعتبارًا.

.[مسألة: الدعاء بعد الرابعة]

فإذا كبر الرابعة... فروى المزني: (إنه يسلم).
وذكر الشافعي في موضع آخر: (أنه إذا كبر الرابعة، قال: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده).
قال أصحابنا: وليست على قولين، ولا اختلاف حالين، وإنما ذكره في موضع، وأغفله في آخر، وليس بواجب.
ثم يسلم، وذلك واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم». وهل يسن تسليمتان، أو تسليمة واحدة؟ فيه قولان، كسائر الصلوات.

.[مسألة: من سبق ببعض التكبيرات في صلاة الجنازة]

. مسألة: من سبق ببعض التكبيراتفإن فاته الإمام ببعض التكبيرات... فإنه يكبر، ولا ينتظر تكبيرة الإمام.

وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يكبر، بل ينتظر تكبيرة الإمام، فيكبر معه).
دليلنا: أنه مدرك للإمام، فدخل معه، كسائر الصلوات.
إذا ثبت هذا: وأدرك المأموم الإمام في القراءة... فإنه يكبر، ويقرأ، فإذا كبر الإمام الثانية، فإن كان المأموم قد فرغ من القراءة كبر الثانية، وإن لم يفرغ من القراءة... فهل يقطع القراءة ويكبر، أو يتم القراءة؟ فيه وجهان: كالمسبوق إذا ركع الإمام قبل إتمام القراءة.
فإذا قلنا: يقطع القراءة ويكبر... فهل يتم القراءة بعد التكبيرة الثانية؟ فيها وجهان، خرجهما ابن الصباغ:
أحدهما: يتم القراءة؛ لأن محلها القيام، وهو باق.
والثاني: لا يتمها؛ لأن محلها ما قبل التكبيرة الثانية.
فإن أدركه بعد التكبيرة الثانية... فإنه يكبر، ويقرأ ما يقتضيه ترتيب صلاته، لا ما يقتضيه ترتيب صلاة الإمام.
فإذا سلم الإمام، وقد بقي عليه شيء من التكبيرات... أتى بهن.
وقال الأوزاعي: (لا يأتي بهن).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا».
وهل يجب عليه أن يأتي بالذكر بين التكبيرات؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه أن يأتي به؛ لأن الميت يرفع.
والثاني: يجب عليه أن يأتي به، كما لو كان الميت غائبًا.

.[مسألة: تعجيل الدفن]

إذا صلي على الميت... بودر إلى دفنه، ولا يوضع لمن أراد أن يصلي عليه ثانيًا، إلا أن يكون وليه لم يصل عليه، فجاء ليصلي، فإن لم يخش تغير الميت فلا بأس أن يوضع ليصلي عليه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن صلى عليه بعض الأولياء والناس، ثم جاء ولي آخر كان غائبًا، فأراد الصلاة عليه... لم توضع له الجنازة، فإن وضعت له رجوت أن لا يكون به بأس، ومن فاتته الصلاة... صلى على القبر). وإليه ذهب ابن سيرين، وأحمد رحمة الله عليهما.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تجوز الصلاة على القبر، إلا أن يكون الميت قد دفن بغير صلاة، فيجوز أن يصلى على القبر إلى ثلاثة أيام، وبعد الثلاث: لا يجوز، وإن صلي عليه... لم يصل على القبر إلا الولي، أو الوالي، أو إمام الحي).
دليلنا: ما روي: «أن امرأة مسكينة مرضت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا ماتت... فآذنوني، فماتت ليلاً، فدفنوها، ولم يوقظوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أصبح أخبر بذلك، فقال: آلا آذنتموني؟، فقالوا: كرهنا أن نوقظك، فخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قبرها، ووقف بالناس، وصلى عليها، وكبر أربعًا».
فإن قالوا: فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الإمام.
قلنا: قد أجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتهم عليها.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، وقد مات البراء بن معرور وكان قد أوصى له، فقبل وصيته، وصلى على قبره بعد شهر».
إذا ثبت هذا: فإلى أي وقت تجوز الصلاة على القبر؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: إلى شهر، وبه قال أحمد رحمة الله عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر البراء بن معرور، وعلى أم سعد بن عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بعدما دفنا بشهر، ولم ينقل أكثر منه.
والثاني: ما لم يبل جسده ويذهب؛ لأنه إذا كان باقيًا... فهو بمنزلة حال الموت.
والثالث: يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة عليه؛ لأنه من أهل الخطاب بالصلاة عليه، فأما من ولد أو بلغ بعد موته: فلا يصلي عليه؛ لأنه لم يكن من أهل الخطاب بالصلاة عليه.
والرابع: أن يصلى عليه أبدًا؛ لأن القصد منها الدعاء له، وذلك يوجد بعد طول المدة.
فأما الصلاة على قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فلا تجوز على الأوجه الثلاثة الأولى؛ لأنه قد مضى أكثر من شهر، ولأنا لا نعلم بقاءه في القبر؛ لأن الأنبياء يرفعون من قبورهم، ولأنا لم نكن من أهل الخطاب بالصلاة عليه عند موته. وأما على الوجه الرابع: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تجوز الصلاة عليه. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، قال: وكذلك لو صلى على قبر آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -... جاز ذلك، كما يجوز ذلك في حق سائر الموتى.
ومنهم من قال: لا يجوز. حكاه ابن الصباغ وغيره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتخذوا قبري مسجدًا». وروي: «لا تتخذوا قبري وثنًا، فإنما هلك بنو إسرائيل؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وهل يستحب لمن صلى على الميت أن يعيد الصلاة عليه مع من لم يصل عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يستحب، كما قلنا في سائر الصلوات.
والثاني: لا يستحب؛ لأن صلاته الثانية نفل، وصلاة الجنازة لا يتنفل بمثلها.